تُعدّ الحوسبة التطورية أحد المجالات الفرعية المهمة في الذكاء الاصطناعي، حيث تستلهم مبادئها من العمليات الطبيعية للتطور البيولوجي لتطوير خوارزميات ونماذج قادرة على حل مشكلات التحسين المعقدة.
وتعتمد هذه الخوارزميات على آليات مثل الطفرة، والاختيار، والتقاطع (إعادة التركيب)، التي تحاكي الطريقة التي تتطور بها الأنواع عبر الأجيال في الطبيعة. كما تعتبر هذه الخوارزميات أدوات فعالة في تحسين مجموعة واسعة من التطبيقات، مما يعكس أهمية هذا المجال في معالجة تحديات متنوعة.
مبادئ الحوسبة التطورية وأنواعها |
آليات ومفاهيم الحوسبة التطورية
تتمثل الفكرة الأساسية للحوسبة التطورية في تطوير مجموعة من الحلول المرشحة بشكل متكرر عبر الأجيال، حيث تخضع هذه الحلول لعمليات تطورية مماثلة لتلك التي تحدث في الطبيعة. وذلك من خلال عملية الطفرة، حيث يتم إدخال تغييرات طفيفة على الحلول القائمة، بينما يساهم التقاطع في دمج ميزات من حلول مختلفة، لتوليد حلول جديدة.
فالأفراد الذين يتمتعون بلياقة أفضل، أي يمتلكون حلولاً ذات جودة أعلى، يكونون أكثر قدرة على البقاء والتكاثر، مما يؤدي إلى تحسن مستمر في جودة الحلول مع مرور الوقت.
أنواع الخوارزميات التطورية
يتم تصنيف الخوارزميات التطورية إلى عدة أنواع رئيسية، كل نوع له نهج فريد في معالجة وتحسين الحلول، مما يوفر مجموعة واسعة من الأدوات الفعالة في مواجهة التحديات المعقدة، ومن بين هذه الأنواع:
الخوارزمية الجينية (GA)
الخوارزمية الجينية (Genetic Algorithm - GA) هي إحدى الخوارزميات التطورية التي تستند إلى مبادئ الانتقاء الطبيعي، وعلم الوراثة للبحث عن الحلول المثلى ضمن فضاء حلول معقد. تبدأ العملية بتمثيل كل حل محتمل على شكل سلسلة من الجينات، و غالبًا ما يتم تشفيرها ثنائيًا.
بعد ذلك، يتم إنشاء مجموعة أولية من الحلول وتقييمها باستخدام "وظيفة ملاءمة" تقيس جودة كل حل. والحلول ذات الجودة الأعلى يتم اختيارها للانتقال إلى الجيل التالي، مما يضمن استمرار تحسين الحلول بمرور الوقت.
تأتي بعد ذلك عمليتا التزاوج والطفرة، ففي مرحلة التزاوج، يتم دمج جينات الحلول المختارة لتكوين حلول جديدة، حيث يتم تبادل أجزاء من السلاسل الجينية بين الحلول عند نقاط محددة. هذا التزاوج يتيح إنشاء تنوع في الجيل الجديد من الحلول.
أما في مرحلة الطفرة، فيتم إدخال تغييرات عشوائية على بعض الجينات، مثل تبديل 0 إلى 1 أو العكس، مما يضمن التنوع ويمنع الوقوع في الحلول المحلية المثلى.
تتكرر هذه العملية عبر عدة أجيال، حيث يتم تقييم الحلول الجديدة واختيار الأفضل منها للانتقال إلى الجيل التالي.
فمثلا في مشكلة الحقائب المتنقلة (Knapsack Problem)، تسعى الخوارزمية الجينية إلى اختيار مجموعة من العناصر بأوزان وقيم مختلفة لتوضع في حقيبة بوزن محدد، مع تعظيم القيمة الإجمالية. ومع مرور الوقت، تتحسن جودة الحلول تدريجيًا حتى يتم الوصول إلى حل أمثل أو قريب من الأمثل.
البرمجة التطورية (EP)
البرمجة التطورية (Evolutionary Programming - EP) هي خوارزمية تطورية تركز على تطوير استراتيجيات التكيف لدى الأفراد ضمن مجموعة من الحلول في سياق بيئات متغيرة. على عكس الخوارزميات التطورية الأخرى التي قد تركز على التلاعب بالجينات الفردية، وتتمحور البرمجة التطورية حول تحسين سلوك الأفراد في البيئات المتغيرة.
في البرمجة التطورية، يتم تمثيل كل حل محتمل (فرد) كسلسلة من المعلمات التي تعكس سلوكًا معينًا. ومع مرور الوقت، تخضع هذه الحلول إلى عمليات تطورية تشمل الطفرات والاختيار، ولكن بدون التركيز الكبير على عملية التقاطع، كما هو الحال في الخوارزمية الجينية.
و يتم تقييم كل حل بناءً على أدائه في البيئة المتغيرة، ثم يتم اختيار الأفراد الأكثر تكيفًا للبقاء والاستمرار في الأجيال التالية.
على سبيل المثال، يمكن استخدام البرمجة التطورية في تطوير استراتيجيات التحكم في روبوتات ذاتية القيادة. في هذه الحالة، يتم تعديل المعلمات التي تحدد كيفية تفاعل الروبوت مع بيئته (مثل تجنب العوائق أو اتخاذ مسار معين) عبر الأجيال حتى يصل إلى استراتيجية فعالة تمكنه من التكيف مع التغيرات المستمرة في البيئة.
استراتيجيات التطور (ES)
استراتيجيات التطور (Evolution Strategies - ES) هي نوع من الخوارزميات التطورية التي تركز على تحسين الحلول الحالية من خلال إجراء تعديلات طفيفة ومتكررة على هذه الحلول، بهدف التقارب نحو الحل الأمثل.
تتميز هذه الاستراتيجيات بالبساطة والفعالية في تحسين الحلول بشكل تدريجي، مما يجعلها مناسبة للمشكلات التي تتطلب تحسينات دقيقة ومستدامة بمرور الوقت.
ففي استراتيجيات التطور، يتم تمثيل كل حل كسلسلة من القيم العددية، حيث تعكس هذه القيم معايير معينة يجبت حسينها. تبدأ العملية بتوليد مجموعة أولية من الحلول العشوائية. ثم يتم إجراء تعديلات طفيفة (طفرات) على هذه الحلول، بحيث يتم اختبار كل تعديل لمعرفة ما إذا كان يؤدي إلى تحسين الأداء. هذه الطفرات يمكن أن تكون صغيرة جدًا، مما يسمح بالتحسين التدريجي والدقيق للحلول.
بعد كل جولة من التعديلات، يتم تقييم الحلول الجديدة باستخدام "وظيفة ملاءمة" لتحديد مدى قربها من الحل الأمثل. والحلول التي تظهر تحسنًا يتم اختيارها للاستمرار في الأجيال التالية، بينما يتم استبعاد الحلول الأقل فعالية. ويتم تكرار هذه العملية عبر عدة أجيال، حيث تؤدي التعديلات الطفيفة المتراكمة إلى تقريب الحلول تدريجيًا من الأمثل.
كمثال تطبيقي، يمكن استخدام استراتيجيات التطور لتحسين تصميم طائرة بدون طيار (Drone) حيث يتم تعديل معايير مثل زاوية الأجنحة أو توزيع الوزن على الطائرة، بهدف تحسين استقرارها في الطيران. مع مرور الوقت، تؤدي التعديلات الطفيفة إلى تصميم مثالي يحقق التوازن المطلوب ويضمن أداءً عاليًا.
التطور التفاضلي (DE)
التطور التفاضلي (Differential Evolution - DE) هو خوارزمية تطورية قوية تُستخدم لتحسين الحلول من خلال توظيف الفروق بين الحلول القائمة لتوجيه عملية التحسين. على عكس العديد من الخوارزميات الأخرى التي تعتمد على الطفرات العشوائية، يعتمد التطور التفاضلي بشكل أساسي على فروق موجهة بين الحلول لإجراء التعديلات اللازمة.
في خوارزمية التطور التفاضلي، يبدأ العمل بمجموعة من الحلول الأولية الممثلة كنقاط في فضاء الحلول. تقوم الخوارزمية بتوليد حلول جديدة عن طريق إضافة الفرق المتجه بين زوجين من الحلول إلى حل ثالث. هذه العملية تنتج حلولًا جديدة تقع في اتجاه الحلول الأفضل، مما يزيد من فرص تحسين الأداء.
خطوات التطور التفاضلي
البدء بمجوعة حلول أولية (Population Initialization): يتم إنشاء مجموعة من الحلول العشوائية تمثل نقاطًا في فضاء البحث.
توليد حلول جديدة (Mutation and Recombination): يتم اختيار ثلاثة حلول عشوائية من المجموعة. يتم حساب الفرق المتجه بين حلين وإضافته إلى الحل الثالث لتوليد حل جديد.
الاختيار (Selection): يتم مقارنة الحل الجديد الناتج مع أحد الحلول القائمة في المجموعة. إذا كان الحل الجديد أفضل وفقًا لوظيفة الملاءمة، فإنه يستبدل الحل القائم. وإلا، يتم الاحتفاظ بالحل الأصلي.
التكرار (Iteration): تستمر هذه العملية عبر عدة أجيال، مع تحسين الحلول تدريجيًا بفضل الاختلافات الموجهة التي تساهم في توجيه البحث نحو المناطق المثلى في فضاء الحلول.
لنأخذ مثالًا تطبيقيًا على تحسين مجموعة معلمات نموذج للتعلم الآلي. باستخدام التطور التفاضلي، يمكن تحسين مجموعة من المعلمات مثل معدل التعلم وعدد الطبقات المخفية في شبكة عصبية. يبدأ العمل بعدد من النماذج التي تمثل حلولًا أولية. ثم يتم استخدام فروق الأداء بين النماذج لتوليد نماذج جديدة. هذه النماذج الجديدة قد تحمل تحسينات صغيرة ولكنها موجهة، وتؤدي بمرور الوقت إلى نموذج أكثر كفاءة وأداءً.
التطور التفاضلي يعتبر فعالًا بشكل خاص في البحث عن حلول في فضاءات معقدة متعددة الأبعاد، حيث يستفيد من توجيه التحسينات بناءً على الفروق المتجهة بين الحلول، مما يجعله أداة قيمة في مجالات مثل التعلم الآلي، والتحسين الهندسي، وتحليل البيانات.
سرب الجسيمات
تحسين سرب الجسيمات (PSO) هو خوارزمية مستوحاة من السلوك الجماعي لأسراب الطيور والأسماك، وتستخدم لاستكشاف الحلول المثلى ضمن فضاء الحلول.
في هذه الخوارزمية، يُمثل كل حل محتمل كجسيم يتحرك داخل فضاء البحث، وتُوجه حركة كل جسيم استنادًا إلى تجربته الذاتية وتجارب الجسيمات الأخرى في السرب. هذا التوجيه الجماعي يعزز من قدرة السرب على التقارب نحو الحل الأمثل بشكل متناسق ومنظم.
تبدأ آلية عمل سرب الجسيمات بتهيئة مجموعة من الجسيمات التي تنتشر عشوائيًا في فضاء البحث. ويُقيّم كل جسيم بناءً على موقعه الحالي باستخدام وظيفة ملاءمة لتحديد جودة الحل. بعدها، تُحدث سرعات ومواقع الجسيمات اعتمادًا على أفضل موقع شخصي وأفضل موقع جماعي حققه الجسيمات الأخرى.
من خلال هذه العملية التكرارية، تتحسن مواقع الجسيمات تدريجيًا لتقارب الحلول المثلى. هذا التفاعل المستمر بين أفراد السرب يضمن أن الجسيمات تستفيد من المعرفة المشتركة للوصول إلى أفضل الحلول المتاحة.
في الختام، تظل الحوسبة التطورية أداة قوية ومهمة في معالجة مشكلات التحسين المعقدة في مختلف المجالات. فعلى الرغم من التحديات المرتبطة بتكلفتها الحسابية وصعوبة الوصول إلى الحل الأمثل، إلا أن قدرتها على محاكاة العمليات الطبيعية وتقديم حلول مرنة تجعلها تقنية ذات قيمة عالية في التطبيقات العلمية والصناعية. ومن خلال الاستمرار في تطوير هذه الخوارزميات، يمكن للحوسبة التطورية أن تسهم بشكل كبير في تحقيق تقدمات تقنية مهمة في المستقبل.